التدوينات العربية كان يا مكان - Stories

بقايا الأشخاص

9 مارس، 2017
sketch: Francois Henri Galland

sketch: Francois Henri Galland

بينما لايزال عقله يصارع في طبقات مختلفة من اليقظة، تتفتح الحواس داخله حاسّةً حاسّة، يصنعُ سيناريو محدد ليومه لا يفهمه غيره، فغالبا ما يرسم يومه في خياله بخطط مسبقة، فمصير شعوره معروفٌ سلفاً بغض النظر عن القالب الذي سيجد نفسه في مواجهته، وهذا ما أفسد كل شيء.

على عتبات بابه يضعُ قناعاً باسماً  يعطي انطباعا بالسعادة والبشاشة، يقترب منه الناس بلا تردد، على مدى أكثر من ثلاثين عاماً كوّن آلاف الصداقات – نعم آلاف الصداقات ليس في ذلك أيُ مبالغة-. أمّا هي على الجانب الآخر من كل ذلك حينما تستقطع من وقتها جزءاً لتراقبه، دائما ما يتردد في عقلها سؤال لا ثاني له:  هل يعرف هؤلاء الحقيقة حينما لا يكونوا شاهدين على دقائق حياته؟.

فهذا السلوك المرئي الطافح بالسعادة، يختلف كل الاختلاف عن الحقيقة الداخلية، يتمعن في التماهي مع الجماعات التي يلتقي بها، ولكأنه جزءا منها -وهي مَلَكَة ليست بالأمر السيئ حقيقةً-  لم يكن لشخصيته ملامح واضحة، هو ببساطة كمن يجالسه، إن كنت محبا للقصائد سيكون شاعراً معك، إذا كنت راقصاً ستشاهده يتقافز على النغمات في معيتك إذا كنت سارحاً حزيناً ستختفي ابتسامته ويبدأ في تذكر كلَّ مآسيه القديمة، وإذا كنت عاشقاً للنكته سيتحول أمامك لمهرج تتفاجأ أنت ذاتك من أين له هذا الكَمْ من الطرائف المضحكة،  يبدو سهل المعْشر في نظر الجميع، يكون ما يريدونه ويريد ما يكونونه، ولكن كل ذلك يقف على عتبات منزله.

في إحدى الأيام، بينما كانت تتكئ على هَمِّها في الركن القصيّ كانت تبدوا كشخص خائر القوى، حدّثت نفسها وهي تنظر إليه يتقافز فرحا مع أصدقائه:  لو كنت أراقبه بشكل عابر من هنا، لاختلف كل شيء لحسدت تلك التي ظفرت بقلبه، وسيكون في نظري شخصاً لا يمكن نسيانُه، يعرف جيّداً كيف يضفي على حياته لوناً، يصبح ذاك السّاحر الذي تود لو أنه أفضل الأصدقاء لتغرِف من تفاؤله وجمال روحه كل يوم، وسيكون لك رجلاً يمكنه أن يحتمل ثقل ثقتك. وهذا ما يثير جنونها، غارقة هي في أفكارها الخاصة التي تجعل منها في نظر الآخرين كائن غريب الأطوار، كانت تريد شيء من تلك السعادة تود لو أنها بقيّت في هذه المسافة الفاصلة مجرد صديق يضحك معه ويقف على عتبات منزله، لكنها غارقة للحد الذي لا يمكنها التراجع معه.

عادت لوعيها في تلك اللحظات وكتبت رسالة بقيت في مذكراتها للأبد عنوانها “إلى شخص ما”: هل تعتقد بأنني محظوظة؟ إذا كان جوابك بنعم، -يامن ستقرأ رسالتي- فأنت لم تقع في حبه، لم تُجرب القرب الذي يمحو كل تلك المسافات الفاصلة، أن تصعد كل تلك العتبات نحو علياء روحِه، أن تجلس هناك حينما يظهر الجزء الحقيقي منه، أن تكون من تمسك يده لحظات السقوط المريرة، حتى لو كنت تسقط بذاتك في العدم، لم تكن هناك في الأوقات التي سيتحول فيها إلى كائن كئيب إلى صخرة ضخمة إذا ما تشبثت بها قد تأخذك لأعماق المحيط، وقد تسحقك حينما تصل للقاع بلا هوادة، أن تركل كل مآسيك للخلف قليلا لتكون هناك من أجله، ستعرف وقتها بأن هذه الإبتسامة تختفي على عتبات باب بيته، سيظهر لك الكائن الخالي من الألوان، الكائن الذي يطردك لتبتعد عنه، الكائن الذي ينطوي على نفسه، كائن جديد مختلف تماما، يتزوّدُ بالحزن ليحكي عن لحظات هروبه عن أبواب الحب المغلقة في وجهه، عن القلوب التي كان سببا في موتها، ستتفاجأ حقا كيف يُتْقِنُ اجترار آلامه، وكيف يتجاهل ما يملكه في سبيل ما لم يشعر به من قبل، وتتناسى تلك اللذة التي تظهر خلف نظراته لأنك مأخوذ بشعور لم تعهده من قبل! حالة من التوهان، ففي لحظات صحوته يطلب منك المساعدة ليغيب مرة أخرى في العدم الذي اختاره مسكناً ويتركك بمشاعر متضاربة تنظر للباب بعين والعين الأخرى عليه، هل تهرب؟ هل تكون البطل الذي يأخذ بيده؟ هل تنسحب عند أول عقبة؟ هل تأخد الرحلة على محمل الجد؟، عندها وعندها فقط، تتيقن بأنه شخص آخر أحيانا يتلذذ في زرع الحيرة داخلك، شخص يشتكي من ضعفه لكنه لايريد أن يغيّره، ربما تحتاج لوقت يمتد لشهور حتى تستوعب هذا التبدل و تعي بأنها هذه هي الحقيقة ليست تلك الابتسامة التي شاهدتها على محياه في كل الأوقات، وتعرف بأنه قرر مسبقا أن يختزل المراحل ليفسد جمال التدرج وحلاوة النهاية.

توقفت لحظات في منتصف رسالتها، حينما كانت تود أن تصف ذاته الحقيقية تلك اللحظات التي عرفته حقاً عن قرب وتفاجأت بأنها أمام شخص بلا ملامح بلا أفكار بلا رغبات،  ليس لديه ذات تنبع منها رغباته الحقيقية، بعد أن عرفته على مدى سنوات فهمت لوحدها وبأصعب الطرق التي يمكن لأي أحد أن يتعلم من خلالها،  بأن كل مواهبه وهواياته، صفاته الشخصية وطريقة حديثه، هي بقايا الأشخاص داخله بقايا علاقاته القديمة و معارفه المقربين، يالله كيف يمكنك أن تكون مدفنًا لأشياء الناس لـ حكاياتهم لـ أفكارهم ولـ رغباتهم، كيف تقضي عمرك تعيش حيوات ليست لك قصصا لم تكتب لتحكيها أنت، قصائد لم تكن يوما وقودها، وكيف يمكن للأشخاص الذين مروا على حياتك وتوغلوا فيها أن يشاهدوا بقاياهم عليك؟، أن تعيش أحلام غيرك على هامش حياتك، تمثلها أنت ويعجب بها أصدقاؤك الوهميين على صفحاتك. أجزاء عزيزة على غيرك تشكل سنين من الحلم والقتال والأمنيات. لكنها تعرف بأن الحياة لم تكن عادلة يوما ما أليس كذلك؟.

You Might Also Like

No Comments

Leave a Reply

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.